Raafat Al-Zerari

Raafat Al-Zerari
كاتب صحفي ومدرب أكاديمي في الصحافة والإعلام الحديث

الاثنين، 27 سبتمبر 2010

((الآيادب المغادراتية)) تحت الاضواء

بقلم : رأفت الزراري

آيادب مصطلح تم نحته من دالين عريقين ، إيتمولوجيا ومعجميا ، _هما آيات أدبية_ وهذا الجنس من الأدب ليس قصة ولارواية ولاقصيدة ولامسرحية ولا....أي جنس آخر ، رسم منحناه وهويته وملامحه وحدوده في عدة دراسات تنظيرية وتطبيقية _ سبق وأن نشرت في عدة صحف ومجلات محلية وعربية ودولية _ منذ عام 1995، إنه الهجين الذي أستولدته معطيات عصر قادم في بداياته حيث أستهلك الأنسان أجناسه ألأدبية المعروفة بعد أن لم تعد تتسع رؤاه ولغته _صوته_التي لم تعد تقتصر على الوظيفة التوصيلية الآنية وإنما آلت إلى وسيلة للكشف عن البنى العلائقية القائمة وكيفية بناء علاقات أخرى بين مفردات الوجود .. أي إنها بمعنى أدق ، أصبحت أداة خلق أو بؤرة إشعاء وليست أداة توصيل.
وعلى الرغم من الكم الهائل من الدراسات الألسنية القديمة _في التراث العربي_ والحديثة في الآداب الأوروبية والتي برهنت على وجود شئ في اللغة _أية لغة_ إسمه أستيلاد فعل في فعل أو أفعال من فعل أو تفعيل اللغة _وخاصة لغة الكتابة_ وإستنباط طاقاتها التوليدية عبر الأنحراف عن السياق العام أو السلفي للمعنى إلى إستيلاد معاني أخرى . وهنا سؤال يطرح نفسه .. هل يكفي النقل الصوري لمجرد نقله أن يكون فعلا إبداعا أو بؤرة إشعاع ..!!؟ هذا إذا كان الكاتب يؤمن بأن الأبداع خلق وتجاوز لما هو كائن ، قائم ، مستهلك ، سواء في الواقع أم في الذاكرة الجمعية . أما إذا كان الكاتب مايزال يتعاطى الأدب على أنه تصوير ونقل لصورة الواقع المعاش أو المتخيل ، فلا شك في أنه يظل مجرد كاميرا
_آلة_ لاصلة لها البتة بالخلق والأبداع. وأني لأعجب حقا كيف غاب عن هؤلاء الفطاحل _وخاصة شيخ الأيادب المغادراتية (أدونيس) والطاهر_ أننا سبق وأستهلكنا عشرات الآلاف من تلكم الصور ونقلها الكاميراتي الجامد ، وأنهم كانو رواد المنادين بضرورة التجاوز وجعل الكتابة فعلا أختراقيا ووسيلة خلق لوجود نراه لابد قادم . والعجب في السرد القصصي والروائي ليس أقسى من أن يسخن الكاتب متلقيه لأكثر نصف الساعة وفي النهاية يدلق عليه جردل ماء بارد فجأة بقطع التواصل بينهما وكأن شيئا لم يكن ..! لأن الكتابة لم تعد ترفا برجوازيا أو تحفة تتكامل جماليتها بالتزويق والأستعارة والتشبيه وتكريس أنظمتها وقوالبها النحوية والبلاغية وخاصة بعد أكتشاف البنية العلائقية بين الدوال ومدلولاتها وأمكانات تشييد جديدة لتلكم الدوال في الذاكرة الجمعية . ولاسيما ان الأسطرة وتوقيع الحلم وتحليم الواقع قد أصبحت هذه الأيام أساليب بارزة للكتابة الحداثوية (
Imodernity) المفترضة إنها تجاوزت أساليب الكتابة التقليدية ، ولجعل الحوار الساخن المفروض بين الكاتب ومتلقيه إنجاح بناء العلائق المؤملة بين الذاكرة الجمعية ومفردات الوجود القادم وليس القائم. فالخبر الصحفي كان وجودا قائما وثم أستهلاكه بمجرد وصوله الى المتلقي فكيف يمكن أسطرته بمفرداته بغية الوصول إلى خلق وجود قادم ، مؤمل..!؟ وهذا هو دور المبدع _الخالق_ الذي غالبا مايستعين بخزينه اللغوي وثروته الدلالية لتشييد البنى العلائقية فيما بين مفردات الوجودين . إن الكاتب الأبداعي المحترف إنما ما يقوم به هو تشييد علائق جديدة ، يخترق معاني السياق العام ، يؤسس مدلولات أخرى للدوال ، وبمعنى أدق ، يرسم ملامح وجود لا وجود له في الواقع ، وجود يتشكل رويدا رويدا بين الخالق ومتلقي الخلق (النص) وهذا هوالشرط ألأساسي لبلورة الجنس الأدبي الجديد (آيادب مغادراتية) والقديم الوقت نفسه ، أقول: الجديد فأعني بذلك معظم وليس كل ما يسمى بقصائد النثر ، وأقول: القديم فأعني معظم وليس كل ماكتبه أقطاب التصوف الأسلامي وقبله بعض حكماء وشعراء الصين القدامى في أواسط الألف الأول قبل الميلاد . وتراثنا العربي زاخر بالشواهد وربما على رأسها كتاب (المواقف والمخاطبات) الذي كان قد وضعه النفري ، عبد الجبار بن محمد في القرن العاشر الميلادي . وإن كان المنظرين والدراميين الحداثوييين قد صنفوا تلكم الآيادب المغادراتية (الآيات الأدبية) ضمن مايسمى اليوم يقصيدة النثر على الرغم من أنها ليست قصائد ولانثرية ، لكن شعرائها النثريون يبحثون عن تبرير تراثي أو جذور تاريخية لأضفاء الشرعية الشعرية على نصوصهم النثرية . وعلى أية حال ، لاأريد الخروج عن مشاكل صغيرة مع التأريخ أكثر ، لنأخذ مثالا لأديب معروف على الصعيد الأدبي دون ذكر أسمه حتى لانقع في مسألة التشهير، وهنا يتجلى التهجين بين لغة الشعر ولغة النثر لتتجلى لغة الأيادب المغادراتية   :
(( عمي أصبح أكثر حرصا ،
لاينوي قتل أبي .. قبل أن يقتلني ،
يشاهد دمدمة روحي ،
تفتك بالفتيان ..
فيصنع لي فتاة ،
أبهى من كل عرائس النيل ،
تنظر وكأنها لاتراني ،
تتكلم وكأنها لاتسمعني ،
صفائها يهش عنها البنات ،
بسمتها تطفئ ضحكاتهن ،
تبص للنجوم كأنها تتأمل ،
نعجاتها الوليدة ترنو إلى البعيد ؛
في عتاب .. في عتاب ))
أفليست هذه قصيدة نثر المجرد إعادة ترتيب الأسطر وتغيير نظامها (شكلها على الورق) الأفقي إلى النظام العامودي ..!؟ إذا كانت الشعرية لا تعني إلا الشكل _شكل الكتابة_ فبئست تلك الشعرية ، فلقد عرفنا الشعرية وعلى مدى أكثر من ألفين سنة لصيغة أيقاع موسيقي خاص يعد من أبرزما يميز الشعر عن الأجناس الأدبية الأخرى ، وأني على يقين بأن أولئك الرواد والأفذاذ _السياب والملائكة والبياتي وبلند الحيدري_ لو علموا بأن ثورتهم على البيت الفراهيدي ستقود الشعراء من بعدهم إلى متاهات الأجناس النثرية ، لما ثاروا قط. فلماذا يصر شعراء اليوم على الخلط بين ماهو شعري بما هو نثري على الرغم من ان أحدا من كتاب الآيات الأدبية منذ تعاطيها في بدايات القرن الثاني الهجري ، لم يصنف النثر شعرا ولا الشعر نثرا . وهل بلورة جنس أدبي نثري سبة أدبية أم تقليل من شأنه ومن قيمته الجمالية أم لكي نظلم ونتجنى على الشعر والشعراء وكتاب النثر ومبدعيه ..!؟ ومن أبرز الكتب التي صدرت في أواخر التسعينيات من القرن الماضي عن الأيادب المغادراتية هو كتاب ((وهكذا)) للكاتب والأديب القاص (أحمد شوكت) . أن ما يدهشني أن هناك أفرازات من الأدب الحربي الذي ينشر في الصحف والمجلات العربية والمحلية وصدور الكتب المتراكمة عنه والذي شبعنا منه حد التخمة _إن أدب الحرب وبأشكاله وطروحاته التقليدية ، قد فقد بريقه يا سادة ، فقد أستهلكناه جميعا ويكفيه أنه أتعبنا كثيرا وضيع علينا حتى الحس بقدرة اللغة على الخلق ورسم ملامح الوجود الآخر_الممكن_الأمل_الخلاص_وتلمس المسالك التي قد تقودنا إلى أزمنة بلا حروب ، بلا صراعات دموية ،بلا أبادات جماعية ؛ إلى أزمنة الحلم القادم ، أزمنة الحوارات الساخنة الحميمية في خضم هذا الصقيع بين كل مفردات الحضارة البشرية وأقوامها المستلبة سلاما ، أما كان الأجدر نشر نص حديث أو صدور كتاب عن الحلم الموقع وتحليم الواقع ، أو لتكريس هذه المساحات الشاسعة لدراسة أو بحث أو عمل أدبي ثقافي آخر سوى أدب الحرب الواقعي جدا ...!؟  ومايؤسفني أن الكتاب والأدباء العراقيون لم يهتدوا حتى اليوم إلى ان يكونوا بؤرة إشعاع بأساليب كتابتهم فعل فاعلهم فيه ، فظلوا يلوكون أساليبهم في الثمانينات من القرن الماضي ولم يطرأ ببالهم أن يتجاوزوها ..!؟ أم أننا مازلنا تحت تأثير عقدة الأحساس بالدونية آزاء ماتفرزه الأقلام الغربية والأوروبية على الرغم من أن تلكم الأقلام الغربية قد تخلفت عن الأقلام الشرقية والعربية خاصة كثيرا منذ العقدين الآخرين من القرن العشرين وحتى اليوم إذا ما أستثنينا المنجزات التكنلوجية ..! فعلى الصعيد الفكري (الأدبي والفلسفي) لم يشهد القلم الغربي أيما تطور أو أبداع جديد منذ ذلك الوقت وأنما يلوك ما كان قد تبلور في النصف الأول من القرن العشرين . أفلا يجدر بنا الأهتمام أكثر بما تبدعه الأقلام العربية والشرقية وشعوب مايعرف بالعالم الثالث عموما..!!؟    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق